تأثير الصوفية في المجتمع الهندي
عبد الرحمان الفيضي ملافلي
إن طرق التصوف قد نمت وازدهرت ولقيت رواجا كثيرا في بلاد الهند في جميع العصور. فرغم أن الطرق الصوفية الأصلية نشأت في خارج الهند، قد حظيت بانتشار واسع النطاق في طول الهند وعرضها، على أنه تأسست هنا طرق فرعية عديدة تلقتها الأمة الإسلامية في داخل البلاد وخارجها بقبول حسن. يقول السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي: وبجانب تلك الطرق الصوفية المشهورة (مثل الطريقة القادرية والجشتية والنقشبندية والسهروردية، التي ترعرعت في الهند وازدهرت ونفقت سوقها)، طرق وسلاسل أخرى، وليدة هذه البلاد فحسب، وهي تنتمي إلى شخصيات نبغت في الهند ودفنت في أرضها، مثل الطريقة الفردوسية، والمدارية، والقلندرية، والشطارية، والمجددية، وهي سلاسل نشأت في الهند، و"صدرت" بعد ذلك إلى بلاد أخرى"[1]
ولاغرو إذا قلنا إن العهد الإسلامي في الهند بدأ بالصوفية، وخاصة الشيخ معين الدين الأجميري مؤسس الطريقة الجشتية في الهند. تقاطر الناس على هؤلاء المشايخ، وبايعوهم على امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، وساروا خلفهم يتتبعون خطاهم، حتى كان تأثيرهم في المجتمع يغلب على تأثير الأمراء والسلاطين، ويرجع إليهم الفضل في تغذية الحضارة الهندية بقيم إنسانية فاضلة مثل التسامح الديني ومواساة الفقراء والتفريج عن البائسين والمنكوبين.
وكان الناس يجلون المشايخ الصوفية إجلالا بالغا، وكانوا يرغبون في أن يتوبوا على أيديهم ويسلكوا مسالكهم ويزكوا قلوبهم وينوروها بأنوار التربية الروحانية المستمدة من هؤلاء المربين الربانيين. ونرى في تاريخ الهند أمثلة لا تحصى لهذا الإجلال والتبجيل، منها أن الشيخ محمد معصوم (م 1079هـ) ابن الإمام أحمد بن عبد الأحد السرهندي قد بايعه وتاب على يده تسع مأة ألف من الرجال، واستخلف في دعاء الخلق إلى الله وإرشاد الناس وتربيتهم الدينية سبعة آلاف من الرجال.[2]
يقول المؤرخ الشهير القاضي ضياء الدين البرني يذكر عهد السلطان علاء الدين الخلجي : كان شيخ الإسلام نظام الدين وشيخ الإسلام علاء الدين وشيخ الإسلام ركن الدين من أعلام التربية الروحية والإصلاح في عهد السلطان علاء الدين تنور بهم العالم، وبايعهم خلق كثير لايحصون، وتاب على أيديهم الفسقة والفجرة، وواظبوا على الصلاة، وعضوا عليها بالنواجذ طول حياتهم، ونشأ فيهم حب الدين وإجلاله، وصحت توبتهم، والتزموا العبادات كلها، وتضاءل حب الدنيا في قلوبهم، وذلك بتأثير أخلاقهم السامية الكريمة."
ويسرد قائلا: إن السنوات الأخيرة من عهد علاء الدين تمتاز بأن كسدت فيها سوق المنكرات من الخمر والغرام والفسق والفجور والميسر بجميع أنواعها، ولم تنطق الألسن بهذه الكلمات إلا قليلا، وأصبحت الكبائر تشبه الكفر في أعين الناس، وظل الناس يستحيون من التعامل بالربا والادخار والاكتناز علنا، وندرت في السوق حوادث الكذب والتطفيف والغش"[3]
وكان هؤلاء المشايخ لا يخافون في الله لومة لائم، وكانوا يحبون لله ويبغضون لله، وكانوا يصرحون بكلمة الحق عند كل سلطان جائر، فمواقف الإمام أحمد السرهندي حينما أتى الملك أكبر بدين جديد من عنده، وحينما أمره الملك جهانكير بالسجود له، كانت مما تقشعر منه جلود الذين آمنوا. وهناك أمثلة عديدة لمثل هذه المواقف الجريئة في تاريخ الهند، فقد حكي أن الملك المغولي شاه عالم حضر مرة في مجلس الصوفي الكبير مير درد، فمد الملك رجله قليلا لألم بها، فلم يتحمل الشيخ ذلك وقال: إن هذا الأمر ينافي آداب المجلس وكرامته، فاعتذر الملك بالعلة وطلب العفو، فقال له الشيخ: إذا كانت بكم علة، فلم يكن هناك داع لحضور هذا المجلس.
وكان هؤلاء الرجال الربانيون أمثلة حية للقناعة والزهد والعفة، فكانوا لا يقبلون مناصب حكومية، ولاالهدايا من الأمراء والسلاطين، وكان موقفهم من ذلك ما قال قائل منهم في شعر فارسي: لا أحب أن أبيع خرقتي المتواضعة وثيابي البالية برايات الملوك وأعلام السلاطين، ولا أرضى بأن أهجر "فقري" حرصا على مملكة "سليمان"، إن هذا الكنز الذي اكتشفته في قلبي بفضل المجاهدة لا أريد أن أبادله برخاء الملوك وراحتهم وتنعمهم."[4]
وقد حكي أن الشيخ شمس الدين حبيب الله المعروف بميرزا جان جانان الدهلوي من شيوخ الطريقة النقشبندية المجددية قال له ملك الهند مرة: إن الله أعطاني مملكة واسعة فأرجو أن تقبلوا منها شيئا، فقال الشيخ: إن الله تعالى قد وصف الدنيا بالخسة والهوان فقال: ( قل متاع الدنيا قليل ) أما مملكتكم فهي ولاية صغيرة من إقليم من أقاليم هذه الدنيا فلا أريد أن أرزأكم في هذا الجزء الصغير."
ومما لا يقدر على إنكاره أحد أن الفضل في الحركة التعليمية والنهضة العلمية في الهند يرجع إلى تشجيع مشايخ الصوفية، إما مباشرة وإما بواسطة. فكانوا يعتنون بالإفادة والإستفادة ونشر العلوم الدينية اعتناء كاملا، وكانت المدارس والزوايا جنبا إلى جنب في أكثر أدوار التاريخ.
وجدير بالذكر أن زواياهم كانت ملاجئ إنسانية يأوي إليها الناس من مختلف الطبقات، فيجدون فيها بلسما لهمومهم وأحزانهم، على أنهم كانوا يجدون هناك طعامهم وشرابهم ومرافق حياتهم. يقول الشيخ مناظر أحسن الكيلاني: إن هذه الزوايا وحدها كانت نقطة اتصال بين الأغنياء والفقراء، وكان منزل هؤلاء الصوفية والمشايخ "بلاطا" يدفع له السلاطين الخراج، فقد كان يحضر ولي العهد خضرخان عند الشيخ نظام الدين ويستفيد منه، وهكذا السلطان علاء الدين الذي كان يأتيه الخراج من الهند كلها مضطرا إلى أن يقدم الخراج إلى مكان آخر"[5]