الإمام عبد الأحد السرهني

عبد الله الفيضي الأماني

يعتبر الإمام أحمد بن عبدالأحد السرهندي من رواد الفكرة الإسلامية الذين بثوا بذور الثقافة العلمية في صعيد الهند ومهدوها للحركات الثقافية و الإصلاحية و الصوفية التي شهد لها شبه القارة وقام بها العباقرة من الأجيال التالية. ولا يستطيع من له أدنى بصيرة بتاريخ الإسلام في الهند أن ينسى دوره البارزفي إثراء التراث العظيم الذي يعتز به المسلمون في الهند. دعنا نشر إلى بعض النقاط التي ساهمت في تكوين شخصيته التي أهلته لأن يلقب ب"مجدد الألف الثاني"

ثراء الأرومة

كان من حظه أنه كان حلقة ذهبية من سلسلة مزدهرة ومن سلالة طيبة لها مآثر في العلم و الحكمة والصلاح. فينتمي نسبه إلى سيدنا عمربن الخطاب رضي الله عنه بواحد و عشرين واسطة بينهما، ولذلك نسب إليه ودعي بالفاروقي . ورث من جده الأكبر زهده و علمه وصموده على الحق وجهاده المستمر ضد قوات الكفر العدائية.

وكان الشيخ شهاب الدين علي فرخ شاه جده الخامس عشر و مؤسس أسرته. وكان واليا على كابل. تولى الملك بعد وفاة أبيه، وكان مثالا للعدل والصلاح والاستقامة. ومن جهة أخرى كان ربانيا كبيرا في عصره، اهتدى به جم غفير من المسلمين في  ذلك العهد وحصلوا على التربية السليمة على يديه.

وفي أواخر حياته اعتزل الملك وسلم مفاتيح دولته إلى ابنه يوسف، وقضى بقية عمره في زاوية بعيدة من كابل يعبد ربه حيث توفي ودفن هنالك. وأتبع الله به ذريته حيث ساروا على سيرته واقتدوا أثره، وأصبح من عادتهم أنهم يتولون ما قيض الله لهم من الملك، و يتنازلون عن العرش بعد ما  قضوا نحبهم من الحكم العادل  واستوفوا حقوق الناس عليهم،  ويفرغون إلى الزوايا البعيدة ليقضوا بقية حياتهم هناك، ويتخلون للعبادة منتظرين لنداء الله..حتى انتهى الملك إلى الشيخ أحمد، ففارق الملك وأوصى أبناءه بالبعد عنها ووزع أمواله على الفقراء والمساكين. وهكذا كان آباءه كلهم من أصحاب الزهد والعلم والصلاح.

سرهند بلدة طيبة

وكان الشيخ رفيع الدين الجد الخامس للامام السرهندي والعقب التاسع للشيخ فرخ شاه أول من غادر كابول من أسرته ونزل في سرهند.

وكان اسمها القديم "سهرند"،  وكانت ناحية مهجورة، فطلب الملك فيروزشاه من الشيخ خواجه  فتح الله, الأخ الكبير للشيخ رفيع الدين أن يعمرها ويبني بها قلعة. فتوجه اليها سنة 760هـ بألفي راكب، ووضع حجر الأساس للقلعة، وسكن بها، وكذلك استوطنت أسرته بالمدينة الجديدة "سرهند"

وساهمت الأسرة السرهندية في إثراء هذه البلدة بالنشاطات المتنوعة حتى ترقت وتطورت إلى مدينة هامة في الهند، وأنجبت عددا من نوابغ العلماء والرجال، واعتنى بها الملوك والسلاطين لمكانتها الاستراتيجية آنذاك. وقد زارها الملك بابر مرارا. وخرج الملك همايون إلى دلهي من هنا لاستعادة الملك. وكان فيها في الزمن المغولي زهاء 360 مسجدا ورباطا ومقبرة.

ولادة الإمام ونشأته

ولد الإمام السرهندي ليلة الجمعة اليوم الرابع عشر من شوال 971هـ  الموافق لعام 1563م في مدينة سرهند (القريبة من جانديكت حاليا)، وكان معالم الرشد والذكاء تبدو عليه من صغره ويتفرس بها العلماء في  صبوته . وتلقى مبادئ العلوم من والده الشيخ عبدالأحد، فبدأ بالقرآن الكريم، لازمه حتى حفظه كله عن ظهر قلبه، ثم قرأ عليه الكتب المتداولة في عصره. وحظي الإمام من صغر سنه بموهبة خاصة في إدراك العلوم وفهم الأمور الدقيقة والتعبير عنها بالكلمات الملائمة الواضحة.

بعد إتمام الدراسة الابتدائية من  سرهند شد رحله لابتغاء العلم إلى سيالكوت- المركز العلمي الشهيرفي عصره الواقعة في باكستان حيث قرأ الكتب النهائية في المنطق والفلسفة و الكلام وأصول الفقه من الشيخ كمال الكشميري الذي كان بارعا فيها. وقرأ كتب الحديث على الشيخ يعقوب الصرفي الكشميري تلميذ أحمد بن حجر الهيتمي.

مسيرة حياته

ولما أتم الدراسة انصرف إلى التدريس والتأليف، وألف رسائل في اللغتين الفارسية والعربية، وزار آغرا وأقام فيها مدة طويلة حتى اشتاق والده إلى لقائه فقدم آغرا وعاينه وأقام عنده، ثم رجع الإمام ووالده الى سرهند، ولما وصلا مدينة بقرب "تانسي" استقبلهما الشيخ سلطان الذي كان من أعيان المدينة وأنزلهما ضيفين عنده وأكرم مثواهما وأبدى رغبته في تزويج ابنته الصالحة من الإمام الشاب، فقبل والده هذه الخطبة وتم الزواج بينهما. ثم عاد الإمام والعروسة مع الوالد إلى سرهند.

وقضى حياته يخدم والده الذي بلغ من عمره الكبر، مستفيدا من علومه ومقتبسا من أنوار فيضانه الروحاني، وترقى في درجات الطرق القادرية والجشتية، وهذا كله من غير أن ينسى نصيبه من التدريس والتـأليف.

وبعد أن استجاب والده لدعوة ربه سافر إلى دلهي عام1000هـ ، ولما نزل بها زاره علماءها وأعيانها، وفيهم الشيخ حسن الكشميري، وتحدثا عن الشيخ عبد الباقي ومنزلته في الطريق الرباني - وكان شيخ الطريقة النقشبندية - وكان للإمام  السرهندي رغبة قديمة في هذه الطريقة فعزما على زيارة الشيخ عبد الباقي.

ولما دخل على الشيخ عبد الباقي فرح به أشد الفرح وأبدى رغبته في إقامته عنده، وكان ذلك كله على خلاف ماعهد به الشيخ عبد الباقي من قبل، لأنه ما كان من رأيه أن يبالغ في إكرام أحد كما فعل بالإمام السرهندي . ولا يختلف اثنان فيما تفرس به الإمام عبد الباقي في الإمام السرهندي التقدم والرقى لطريقته النقشبندية بواسطة ما سيقوم به من دعوة روحانية وإصلاحات شاملة يطير بها صيتها في الآفاق ويعبر حدود الأزمان.

وأقام عنده مدة واستفاد منه كثيراحتى وثقت الصلة بين الشيخ والمريد وتمت المبايعة على الطريقة النقشبندية  ورجع الى سرهند. وزار شيخه مرارا بعد ذلك إلا أنه في آخر زياراته مشى معه عند رجوعه وبشره بنعم كثيرة وجعله رأس الحلقة والإرشاد وأوصى مريديه باتباع الامام السرهندي.

وأقام في سرهند مدة يهذب القلوب على الطريقة النقشبندية ويرشد الطالبين ويكتب أحواله وأخباره الشخصية . وترقى الإمام في مدارج اليقين حتى ظهرت له مبشرات.

على إرشاد من شيخه سافر إلى لاهور التي كانت مركزا  علميا في ذلك العصر. ولما نزل فيها أتى إليه علماءها ومشايخها يستقبلونه ويبايعونه ويستمعون إرشاداته ويشهدون حلقات الذكر والوعظ عنده.

وفي هذه الفترة أصابته مصيبة كادت تحرق قلبه! وماكانت إلا انتقال شيخه المبجل إلى جوار ربه، فحزن عليه الإمام حزنا شديدا، وقصد دلهي وزار قبره ولم يدخل وطنه رغم أنه يقع في طريقه، وعزى أبناء الشيخ وزملاءه وأقام عندهم أياما تسلية لخواطرهم الجريحة . ثم رجع إلى سرهند وأقام بها ولم يخرج منها بعد ذلك إلا نادرا.

ناطق حق عند سلطان جائر

كان الإمام السرهندي معاصرا لجلال الدين أكبر, الامبراطور المغولي الذي بدل بعد الإيمان كفرا وفرض على الناس دينا جديدا باسم "دين الهي" وتزوج من الجواري الهندوسيات وأباح الحرام وهتك الحرمات وقلب الفكرة الاسلامية السليمة وأجبر رعيته على قبول نظريته الضالة الخاطئة.

ويستحق الذكر أن الامبراطور أكبر كان متصوفا بنفسه في باكورة حياته، وفلسفيا تائقا، وكان راغبا في الاستماع إلى الأحورة الفلسفية والمناظرات الدينية في بلاطه. وكانت له اليد الطولى في الأوساط الفكرية السائدة في عصره.

فلا غرو أن نظريته الجديدة وديانته الخاطئة انعكست على العالم الفكري وأثرت في النشاطات الدينية المختلفة . وكان هذا المناخ الفاسد المنقلب المملوء بالفوضى الفكري  أكبر تحد يواجهه عالم ديني أو مفكر  فلسفي أو داع مصلح كالإمام السرهندي.

فلذلك كان الطريق الذي حاول به الإمام لمواجهة هذه الأزمة وأداء مسؤوليته العلمية الضخمة واستجابة تحديات عصره الخطرة يستحق اهتماما كبيرا في المعايير المؤهلة لأن يوصف بتجديد الألف الثاني، لأنه لولا حمايته العاجلة وتدخله الفوري وحضوره العلمي   لما بقي الإسلام سليما إلى الألف المقبل.

ومن الملاحظ أنه وجه رسائل تذكير إلى كل من خان خانان والسيد صدرجهان ومرتضى خان المقربين عند السلطان . وكان يأمل أن تؤثرهذه الفكرات في قلوبهم حتى يتعدى هذا التأثير إلى الجهات الخاصة بالسلطنة ونشرت هذه الرسائل باسم " المكتوبات" ومع ذلك ظل مستمرا بنشاطاته الدعوية والتهذيبية.

ولما مات جلال الدين أكبر، وورثه ابنه جهانكيرالذي  كان على خلاف والده سليم القلب غير مهتم بتعقيدات القضايا الفلسفية، ولامتقيدا لرأي  أو فكرة خاصة، وكان منصرفا إلى اللهو والترف، فعزم الامام أن يستغل السذاجة الفكرية للامبراطورالجديد ويطهر ما لوثته فكرة والده الملحدة ويعيد الناس إلى الإسلام الصحيح والعقيدة الخالصة.

ولما طلب الامبراطور جهانكير من الإمام أن يزوره في مقره، ووكل به والي سرهند، خرج في خمسة نفر من أصحابه إلى قصر الامبراطور . استقبله جهانكير استقبالا حارا، وضرب له خيمة بجوار  قصره، وأكرمه، ودعاه إلى بلاطه للمقابلة. ولما أتى البلاط لم يأت بالتحيات المعتادة للملوك. فسأله الملك عن السبب. فأجاب بأنه لا يعرف إلا تحية الإسلام، فأجبره الملك على السجود له، فأبى أن يسجد لبشرمثله وقال: لا أسجد إلا لله.ومن العجيب أن الأمير شاهجهان ابن السلطان الذي كان يخفي حبه للإمام أرسل إليه علماء يحملون كتبا فقهية تشير إلى ترخيص الانحناء للسلاطين. ولكن الإمام اجترأ لأن يرفضها قائلا بأنها رخصة وأنه لن يقبل إلا العزيمة.

فأدت هذه الحادثة إلى أن يحبس في قلعة "كوليار" في شهر ربيع الأول عام 1028هـ وصودرت كتبه ومؤلفاته ورباطه وبيته ونقل أهله إلى مكان آخر. ولكنه صبر على هذا كله صبرا جميلا. واستمر في الدعوة والإرشاد حتى دخل المحبس وأسلم على يديه خلق كثير من المحبوسين. وتاب سجناء مسلمون واتبعوه ودخلوا في طريقته حتى بلغوا أعلى درجات الروحانية.

وكان من تقدير المولى عز وجل أن الملك تراجع عن أمره وتاب عن فعله وأطلق سراح الإمام وأبدى رغبته في اللقاء معه فأكرمه السلطان وصب عليه من نعمه ثم طلب منه أن يقيم في عسكره . فأذن لذلك انتهازا للفرصة للقيام بعمله التجديدي . وسار الإمام مع العسكر من مكان إلى مكان وصحبه إلى لاهور و بنارس وأجمير.

وحصل ما كان يتوقعه الإمام من إقامته في العسكر حيث أثرت مواعظه وإرشاداته في العسكر الذي تحول إلى رباط، وتأثر السلطان جهانكير بالإمام السرهندي فتولدت فيه نزعة دينية جديدة وعناية بتعمير المساجد في المناطق المفتوحة والنشاطات الدينية الأخرى . وهكذا أعاد بناء الإسلام وجدده بعد ما دمره الملك أكبر.

وساطة في النزاعات الفلسفية

وكان الزمن الذي شهده الإمام السرهندي متوهجا بالخصومات الفلسفية والنزاعات والاختلافات الفكرية وخاصة في الإطار الصوفي الذي أصبح جزءا هاما من الحياة الدينية في ذلك العصر. واستطاع الإمام السرهندي أن يوفق بين النظريات المتعارضة ويرفع راية الإصلاح والتجديد في القضايا الفكرية السائدة في عصره.

فكرة وحدة الوجود كانت الرحى التي تدور حولها المناقشات الحارة. وتفرق العلماء فيها إلى فرقتين : فرقة تتعصب للعلماء الذين ينكرون وحدة الوجود ويشنون الغارة على من دعى بها. وكان في مقدمتهم ابن تيمية وابن الجوزي.

وكان مسارح حياته زاخرة بهذه المناقشات الفكرية المتعارضة فجمع هذين الفريقين وسبكهما  في خيط واحد وقال بوحدة الشهود دون وحدة الوجود. وذلك أن العبد إذا عرف الله حق معرفته وترقى إلى درجات اليقين ورأى الله في قلبه خفي في قلبه الخلق وسائرالدنيا ولا يشهد إلا الله سبحانه وتعالى . فذلك وحدة الشهود. وهناك أشياء في الوجود ولكنها في الشهود خافية في حق العارف بالله . وهكذا جدد الفكرة التي كانت محل الشكوك و محط النزاعات المستمرة.

في المسالك الروحانية

كان والده عبد الأحد السرهندي عالما ربانيا غلبه الشوق إلى علم اليقين ولم ينتظر لإتمام دراسته و سافر إلى الشيخ عبد القدوس رئيس الطريقة الجشتية الصابرية وأخذ عنه الطريقة ثم زار بعده ابنه ركن الدين فأجازه وجعله خليفته في التربية والتسليك والإرشاد. وهكذا كان للإمام السرهندي خلفية لاقتباس نصيبه من فيضان والده.

وكانت له الحظوة عند الشيخ عبد الباقي شيخ النقشبندية الذي قدم من كابل إلى دلهي. وكان الشيخ لما أراد السفر استخار الله ورأى بعد صلاة الاستخارة أن ببغاء جميلة تنطق بالحديث الحلو نزلت وجلست على يديه وهو يسقيها بريقه فتطعمه بمنقارها السكر فذكر الشيخ هذه الرؤيا لشيخه خواجه الامكنكي فعبرها بأن شخصا من الهند يضيئ العالم تحت تربيته.

ولما دخل الإمام السرهندي على الشيخ عبد الباقي عرف أنه الرجل الموعود، فلذلك بالغ في إكرامه وأفضى إليه أسرار النقشبندية وأجازه واستخلفه في الطريقة  النقشبندية.

وكتب الشيخ إلى بعض أصحابه عن السرهندي : " إن الشيخ أحمد الذي هو من سكان سرهند والعالم الرباني الوافر العلم القوي العمل صحب هذا الفقير مدة يسيرة فشاهد الفقير عجائب أحواله وعظيم صفاته وباهر مقاماته، وأرجو أن يكون سراجا يضيئ العالم وإنني على يقين وثقة من أحواله الكاملة"

وطريقته تسمى بالطريقة النقشبندية المجددية أمة عظيمة من رجال عصره، ودار وجال في آفاق المملكة المغولية وقام بأعمال التربية ودوره التجديدي فيها. وبعث الإمام خلفاءه إلى مختلف نواحي الأرض لأجل تربية الناس على الطريقة النقشبندية، وبعث 70 شخصا تحت قيادة الشيخ محمد قاسم إلى تركستان , و40 شخصا بقيادة الشيخ فرخ حسين إلى بلاد الحجاز واليمن والروم والشام، وعشرة من كبار أصحابه تحت قيادة الشيخ محمد صادق الكابلي إلى كابل، وغيرهم إلى مختلف بقاع الأرض حتى انتشرت طريقته بمساعيه الحثيثة المخلصة مشارق الأرض ومغاربها.

وفاته

لما كان مع العسكر في أجمير أرسل إلى أبنائه في سرهند : " أيامي معدودة وأنتم بعيدون مني" . فقام أبناءه الخيار وأتوا أجمير فقال لهم :" ليست لي الآن رغبة في الدنيا ويستولي علي التفكير في الدار الآخرة . ويبدو أن السفر إليها قريب."

وعاد إلى سرهند وترك العلائق كلها واختار العزلة والخلوة . ولم يأذن لأحد للدخول عليه إلا لأبنائه أو خدمه أو أصحابه الخاصة . وكان لا يخرج إلا للصلوات الخمس وكان يشتغل في الذكر والاستغفار.

واشتد مرضه من منتصف شهر ذي الحجة وكان يقول إذا غلبه الضعف :" اللهم الرفيق الأعلى" . ولما كان اليوم 22 من صفر أمر بتوزيع جميع ثيابه وملابسه على خدمه . وأصابته الحمى على سنة الرسول صلعم فأوصى بموضع الدفن وكيفية الكفن

وسار إلى الله في اليوم وكان عمره ثلاثا و ستين عاما.

 
Make a Free Website with Yola.